أكرم بركات
الإثنين 1 أيلول 2025
«الوطن» مصطلح يتعلّق بمساحة جغرافية محدّدة إلّا أنه يتجاوزها في كونه معبّراً عن انتماء، وهوية، وذاكرة، وبُعد معنوي روحي. إلّا أنّ هذا التعلّق وهذا التعبير لم ينطلقا من الفطرة الإنسانية الصافية، حتى نجدهما مع الإنسان في أوّل وجوده، بل مرّ تشكيل الوطن بتعلّقه الشكلي، وتعبيره العميق، بمسارات بشرية طويلة، حتى وصل الأمر إلى مصطلح الوطن «السياسي».
وفي مسار الوطن المكلّل بالأحداث المؤلمة تنوّعت آراء الفلاسفة والفقهاء حوله بما يطال مشروعيته الفلسفية والفقهية، وفي هذا المقال أودّ أن أعرض باختصار مشروعية الوطن من منظور الفقيه الشيعي الإمامي؛ مدخَلاً للإضاءة على فكر الإمام موسى الصدر، وسيّد شهداء الأمّة حول لبنان العزيز.
الوطن عند الغرب
في بلاد الغرب، لم تكن كلمة «الوطن»، في اليونانية واللاتينية، تعني أكثر من المرعى، أو البيت، أو تراث الأب، أو قبر الأسلاف، وفي رحلة هذا المصطلح في الغرب تطوّرت كلمة «الوطن» لتدلّ على بلد المرء أو مدينته أو قريته.
وفي ما بعد حصلت صراعات تنطلق من خلفيات قومية، ومن أطماع سياسية واقتصادية وغير ذلك، كان لها أثر على تشكّل معنى جديد للوطن، والذي واكبه عدد من فلاسفة القرن السابع عشر حيث برز الحديث في فلسفتهم عن العقد الاجتماعي الذي يتشكّل الوطن على أساسه.
فرأى الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبر (ت 1679) أنّ العقد الاجتماعي يكون بين أفراد الشعب إذ يكون فيه تنازل عن الحقوق لصالح حاكم مطلق في صلاحياته إذ يضمن الأمن والنظام. وجاء بعده الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (ت 1704) ليطوّر هذا العقد الاجتماعي، ليكون بين الشعب والحاكم بتنازل عن بعض حقوق الشعب، مع احتفاظ الشعب بحقّ مقاومة الحاكم إذا أخلّ بواجباته من حفظ الأرواح، والممتلكات، والحرّيات، والمصالح العامّة.
وفي القرن الثامن عشر حصل التطوّر الأهمّ في العقد الاجتماعي في طرح الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (ت 1778) الذي لم يرَ للحاكم خصوصية حقوقية، معتبراً أنّ صاحب السلطة الحقيقي، والحاكم الحقيقي، هو الإرادة العامّة التي تنبثق من الشعب، ويكون الحاكم موظّفاً يعمل تحت سقف الإرادة العامّة. وبهذا العقد الاجتماعي سوّر روسو حدود الوطن.
تلك الحدود التي رفضها الفيلسوف الفرنسي فولتير (ت 1778)؛ باعتبارها تغلّ النفس الإنسانية، وتحوّل المرء إلى عدوّ لسائر البشر، كما رفضها الفيلسوف الألماني ليسينغ (ت1781) مفضّلاً أن يلقّب نفسه بـ«مواطن العالم»، وكذا الفيلسوف الألماني هيردر (ت 1803) الذي رفض مواجهة وطن لوطن معبِّراً عن ذلك بالعجمة الشنيعة في اللغة الإنسانية.
رغم النقاش السابق حول الوطن، فإنّ نظرية العقد الاجتماعي لروسو انتصرت وراجت، ولكن عبر تغييرات إضافية في هذا العقد، حتى بات الوطن في العصر الحديث مؤلّفاً من ثلاثة عناصر: أرض وعقد ومشاركة.
- الأرض، بمعنى السيادة على إقليم محدّد.
- وعقد اجتماعي ينشئ نظاماً سياسياً ذا ملامح محدّدة.
- ومشاركة من قبل المواطنين في تقرير أو تسيير أمور البلاد.
الوطن عند العرب والمسلمين
ذكر أصحاب المعاجم العربيّة أنّ معنى «الوطن» هو «مكان الإنسان ومقرّه»، ورغم أنّ الوطن يطلق في اللغة على مكان الاستقرار المؤقّت، إلّا أنّه كثرت استعمالاته على المكان الذي أقام فيه الإنسان إقامة دائمة غير مؤقّتة، وهو في كثير من الأحيان يكون وطن الآباء والأجداد، وهو ما يصطلح عليه بالوطن العرفيّ، وهو ما يفهم من معنى الوطن في كلام الإمام علي: «عمّرت البلدان بحبّ الأوطان»، وقوله: «من كرم المؤمن... حنينه إلى أوطانه»، ودعاء الإمام زين العابدين: «اللهم وأعطني... الأمن في الوطن».
وهذا الوطن يتجسّد في القرية أو المدينة التي يسكن فيها الإنسان على النحو المتقدّم، فهو بحسب العرف الذي واكبه البيان التشريعي الإسلامي الأصلي لا ينصرف إلى جميع الجغرافيا التي يحكمها الإسلام، والتي يعبّر عنها بـ«دار الإسلام»، والتي تكون فيها أوطان عدة تنضوي تحت الحكومة الإسلامية.
وقد واكب الفقهاء هذا الإطلاق العرفي للوطن ليحدّدوا له معنيين: الأوّل، مسقط رأسه الذي يترعرع فيه في طفولته، وهو ما يكون في كثير من الأحيان وطن الآباء والأجداد. الثاني، الوطن الجديد، وهو ما يتّخذه الإنسان وطناً دائماً له، وفق شروط محدّدة.
الوطن السياسي في الإسلام
في التاريخ الإسلامي، منذ نشأته، كان الواقع الحكومي التنفيذي يتمثّل بإدارة مركزيّة واحدة تشمل جميع الأراضي الخاضعة للحكومة الإسلامية. ومع تقسيم تلك الأراضي إلى ولايات إلّا أنّه لم يجعلها حكومات مستقلّة، بل كانت شبيهة بالمحافظات في عصرنا الحاضر، ودام الأمر على هذا النحو إلى انتهاء الكيان العثماني، لتظهر بعد ذلك تقسيمات حديثة للبلدان تحت مسمّى الأوطان، والتي كان للاحتلال المنتصِر في الحرب دور رئيسيّ في تحديد حدودها الجغرافيّة بأشكال لا تخلو في كثير منها من غرابة.
وحول هذه الأوطان الحديثة ينشأ السؤال حول نظرة الإسلام منها، باعتبارها أوطاناً سياسيّة، كلّ منها مستقلّ عن الآخر.
ولمقاربة الإجابة عن هذا السؤال نلفت النظر إلى أمرين:
الأوّل، عدم وجود نصّ إسلامي، من قرآن كريم أو حديث شريف، يمكن أن يستند إليه لإضفاء شرعيّة مباشرة خاصّة بهذه الأوطان إذ يكون لكلٍّ منها أحكامه الخاصّة، فالوطن الوارد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لا ينطبق على الوطن السياسي بالمعنى الحديث، كما لا يوجد نصّ إسلامي كذلك يستفاد منه المنع من تشكيل هذه الأوطان بما هي في ذاتها.
أبدى الإمام الخامنئي ملاحظة لأحد قياديّي المقاومة الإسلامية حينما شاهده يتحدّث على إحدى القنوات سائلاً إيّاه بصيغة اعتراض: لمَ لمْ تضع العَلَم اللبناني خلفك؟
الثاني، إنّ الإسلام، وإن كان طرحه وتشريعاته إنسانية عامّة قائمة على مراعاة كرامة الإنسان وأنّ الناس سواسية فإمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، إلّا أنّ ذلك لا يعني، بحسب التشريع الإسلامي، أن يكون الناس متماثلين في جميع الأحكام الشرعية من دون ملاحظة بعض الخصوصيات المرتبطة بعناوين قامت المصلحة على ملاحظتها، وذلك من قبيل كيانات اعتبر الإسلام أنّ لها خصوصية في الأحكام الشرعية، من قبيل:
- خصوصية كيان الأسرة؛ حيث أوجب النفقة على الوالدين والزوجة والأولاد.
- خصوصية الرحم، حيث حرّم قطع الصلة بالأرحام، وخصّهم بأحكام يتميّزون بها عن غيرهم.
- خصوصية الجيران، حيث خصّصهم من الناحية الأخلاقية بتأكيد الاهتمام بهم.
- خصوصية الوطن الفقهي، كالقرية أو المدينة التي ينسب إليها الإنسان بحسب ما تقدّم، فأوجب القصر في الصلاة، وعدم جواز الصيام لمن ابتعد عنها بشروط أوردها الفقهاء الذين احتاطوا بعدم دفع زكاة الفطرة لغير أهل هذا الوطن إن كان المكلّف بينهم في عيد الفطر.
انطلاقاً ممّا تقدّم، فإنّه لا يوجد مانع شرعي من إعطاء بعض الخصوصيات للوطن السياسي، بما ينسجم مع الكلّيات الإسلامية.
إلّا أنّ السؤال يدور حول وجود أدلّة شرعية خاصّة تفيد مشروعية الوطن السياسي هذا. مع الإشارة إلى وجود عناوين إسلامية مسلَّمة تسهم في التنظير لمشروعية الوطن بشكل عامّ، منها ما يتعلّق بضرورة حفظ النظام العامّ الذي يؤدّي الإخلال به إلى فوضى يُعلم يقيناً بعدم رضى الله عنها، وأنّ رضاه عزّ وجلّ لا يحصل إلّا بإزالتها، بما يؤدّي إلى النَظم الاجتماعي، ومنها ما يتعلّق بأحكام شرعية تتعلّق بملكيّة الجهة التي تتمثّل بالدولة ومؤسّساتها كمؤسّسة الطاقة والمياه، والصندوق الاجتماعي، والبلديّات؛ فقد اعتبر الإمام الخامنئي أنّ أموال الدولة، وإن كانت كافرة، هي محترمة لا تجوز سرقتها والاستفادة منها خارج القانون، وبأنّه إن تمّ الاستفادة منها بغير الوجه القانوني، فيجب ردّ قيمة الاستفادة إلى الصندوق الخاصّ بالجهة.
وفي إطار موازٍ لتلك العناوين، نعرض بعض المحاولات لتأصيل مشروعيّة الوطن السياسي في الدائرة الشيعية الإمامية، فقد حاول بعض الفقهاء تأصيل ذلك عبر الأدلّة المباشرة كمحاولة العلّامة الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه «الاجتماع السياسي الإسلامي» الذي حاول فيه أن يؤصِّل مفهوم الوطن السياسي في الإسلام عبر بعض الآيات القرآنيّة. وهي محاولة جديرة بالاهتمام، إلّا أنّ أقصى ما تفيده هو خصوصيّةٌ للدولة الإسلامية بجغرافيّتها العامّة، ولكنّها لا تعطي الجواب الشافي المتعلّق بتشريع الوطن السياسي بالمعنى الحديث، والذي قد يكون متعدّداً داخل هذه الجغرافيا الإسلامية العامّة.
وفي هذا الإطار، أيضاً، هناك إجابة تُستقى من نظريّة الفراغ للشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي نظّر لكون الإسلام، بمقتضى خلود تشريعاته، واكب المتغيّرات التي تحصل في المجتمع، ولم يكن فيها إلزام شرعي من وجوب أو حرمة، كما هو حال الوطن السياسي، عبر تدخّل الفقيه في هذه المنطقة (غير الإلزامية)، ليحكم في ضوء المصلحة العامّة، وبالتالي يمكن للفقيه أن يُعطي غطاءً شرعيّاً للوطن السياسي في دائرة صلاحيّته.
وهذا الأمر نجده بصورة أوضح في أطروحة ولاية الفقيه العامّة التي يمكن للفقيه عبرها إضفاء الشرعية على الأوطان السياسية، وهذا الأمر كان وراء دعوة الإمام الخميني إلى إقامة «جمهوريات حرّة ومستقلّة»؛ فهو في أطروحته لا يمانع من تعدّد الجمهوريات المستقلّة التي يكون لكلٍّ منها ثقافتها الخاصّة، وبرلمانها وأجهزتها الحكومية المختصّة بها، على أساس أنّ شرعية هذه الجمهوريات العامّة تكون من مظلّة الولي الفقيه العامّ الذي لا يختصّ بحسب أطروحته بجمهورية دون أخرى، بل هو عامٌّ لجميعها، وتكون هذه الجمهوريات في علاقة أفقيّة مع بعضها البعض، وجميعُها في علاقة طوليّة مع الوليّ الفقيه. ومن أجل هذا لم يكن في الدستور الإيراني شرطٌ لكون الولي الفقيه إيرانياً بخلاف سائر المسؤولين في الدولة.
وهذا الأمر ينطبق على علاقة المقاومة الإسلامية في لبنان مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهي علاقة أفقيّة، ولكنَّ كلّاً منهما في علاقة طوليّة مع الوليّ الفقيه.
على أساس ما تقدّم، أبدى الإمام الخامنئي ملاحظة لأحد قياديّي المقاومة الإسلامية حينما شاهده يتحدّث على إحدى القنوات سائلاً إيّاه بصيغة اعتراض: لمَ لمْ تضع العَلَم اللبناني خلفك؟
إنّ هذا الانتماء للوطن، رغم أهمّيته وحسنه، إلّا أنّه يجب ألا يُشعر المواطن بعدم مسؤوليته تجاه المظلومين والمستضعفين في العالم، فالوطنية لا تلغي المسؤولية الإسلامية والإنسانية تجاه المسلمين والمستضعفين. فكيف يهنأ المواطنون الشبعانون، وجيرانهم في الوطن الآخر جوعى، أو الآمنون الأقوياء وجيرانهم في الوطن الآخر يتعرّضون للاعتداء والظلم.
انطلاقاً ممّا تقدّم، كانت نظرة الإمام السيّد موسى الصدر، وكلام سيّد شهداء الأمّة، حول لبنان بأنّه الوطن النهائيّ، وبأنّه وطن الآباء والأجداد والأولاد والأحفاد، الذي كما لا يتعارض الانتماء إليه مع الانتماء الإنسانيّ العامّ فإنّه لا يتعارض مع الانتماء إلى الإسلام، وكذا الانتماء إلى العروبة، كما لا يتعارض انتمائي إلى قريتي مع انتمائي إلى لبنان.
إنّ الشعور بهذا الانتماء إلى الوطن زيّن لوحة لبنان في قلب الإمام موسى الصدر وعينه فرأى في طبيعة لبنان جمال الأسماء الدالّة على الله تعالى، فقال في خطاب صور: «نقسم بجمال لبنان وجباله، بجنوبه وشرقه وشماله، بشمسه لدى الغروب في البحر، وبإشراقتها المطلَّة من الجبل».
والحاصل: أنّ الوطن في عين الفقيه الإماميّ ينطلق من النظرة إلى الحدود والجغرافيا والانتماء العاطفي إليها، إلى ساحة الإسلام والإنسانية، حيث يتكامل حبّ الوطن مع الالتزام بالقيم الإسلامية والإنسانية. فالوطن يبقى حاضناً للانتماء والهوية، وفي الوقت ذاته يبقى جسر التواصل قائماً مع قضايا المسلمين والمستضعفين، بما يجمع بين الخصوصية الوطنية، والدين الإسلامي، والرسالة الإنسانية الشاملة.
أستاذ جامعي وحوزوي